وجه الحقيقة : إبراهيم شقلاوي : تصريح فولكر تورك وتعبئة البرهان

حديث المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة فولكر تورك أمس أمام مجلس حقوق الإنسان إن “السودان عالق في حرب تُخاض بالوكالة للسيطرة على موارده الطبيعية”، وتحذيره من جرائم إبادة واغتصاب وتهجير قسري، ذلك يعد اعتراف أممي بتوصيف الحرب توصيفا صحيحا أنها حرب ذات سمات إرهابية تُدار بتمويل خارجي ودعم إقليمي.
الرجل كما هو معلوم صاحب أعلى منصب حقوقي أممي لذلك هذه شهادة دولية لا لبس فيها حول طبيعة العدوان على السودان، هذا التصريح المهم يفتح الباب أمام مسؤوليات قانونية وأخلاقية تجاه السودان ،تستوجب دعمه للقضاء على هذا التمرد المدعوم إقليميا طمعا في ثرواته وموارده.
هذا الحدث يُعد من الناحية الاستراتيجية انقلابًا ناعمًا في المشهد الدولي، إذ بدأ صوت الشرعية ينتقل تدريجيًا من خطاب “حرب أهلية داخلية” إلى خطاب “عدوان خارجي عبر وكلاء محليين”. هذا التحول يحمل مكاسب سياسية للحكومة السودانية، كونه يفتح الباب لشرعنة تعبئة داخلية وخارجية تحت عنوان الدفاع عن الذات والسيادة.
تزامنا مع ذلك رحبت الخارجية السودانية بقرار مجلس حقوق الإنسان الذي أكد سيادة السودان ووحدة أراضيه، ورفض أي سلطة موازية. وأكدت التزامها بالتعاون في مجال حقوق الإنسان، مشيرة إلى أن مكتب المفوضية السامية في السودان هو الجهة المعنية برصد الانتهاكات وتحقيق العدالة للضحايا.
في المقابل أعلنت الحكومة السودانية التعبئة العامة ودعت المواطنين لحمل السلاح، في خطاب مؤثر لرئيس مجلس السيادة أول أمس من قرية السريحة، التي شهدت مذبحة راح ضحيتها أكثر من 120 مدنيًا وفق تقارير دولية. هذا الإعلان يتجاوز الرد على جرائم الدعم السريع، ليشكل تحولًا استراتيجيًا نحو تعبئة وطنية تهدف إلى حماية الدولة وتثبيت كيانها.
هذا التوصيف الجديد للصراع بحسب تورك يمنح الحكومة السودانية شرعية سياسية وشعبية واسعة لخوض حرب دفاعية لا يمكن تصويرها بعد اليوم كحرب داخلية أو صراع بين جنرالين كما يصورها البعض.
إن الاعتراف الأممي بأن الحرب مرتبطة بأطماع خارجية ومصالح في الموارد الطبيعية يضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليات قانونية وأخلاقية، ويُقرّب من إمكانية تصنيف مليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية.
هذا الخيار بات مطروحا، خاصة بعد تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مؤخراً، والتي أدانت بشكل صريح ارتكاب مليشيا الدعم السريع “فظائع ممنهجة” في الفاشر، مع دعوة دولية لوقف دعمها. وتأتي هذه المواقف متزامنة مع بحث جاد في واشنطن لتصنيفها كمنظمة إرهابية، في إطار مسار متصاعد يستند إلى أدلة ميدانية وتوثيق قانوني لمجازرها.
وإذا ما أُعيد تركيب المشهد وفق هذه المعادلة الجديدة التي تجمع بين تعبئة البرهان ومنح الحرب إطارها القانوني والسياسي ، يمكن القول إن السودان يقف اليوم على عتبة مرحلة جديدة، عنوانها: “المعركة من أجل السيادة ورد العدوان”. دولة تدافع عن وحدة أرضها ومليشيا تحارب بالوكالة عن أطراف خارجية ترى في موارد السودان فرصة، وفي فوضاه مجالًا لتحقيق أهدافها.
نحن اليوم أمام مشهد دولي جديد يتحرك لصالح الدولة السودانية، إذا ما أُحسن توظيفه. ولأول مرة منذ اندلاع الحرب، توجد أرضية واضحة يمكن للحكومة السودانية وحلفائها البناء عليها لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسة:
تصعيد المواجهة العسكرية داخليًا وخارجيًا بوصفها حرب دفاع شرعي ضد مليشيا إرهابية، لا مجرد نزاع سياسي أو صراع على السلطة.
بالإضافة الي حشد دعم دبلوماسي إقليمي ودولي لدفع مجلس الأمن وغيرها من المنظمات الإقليمية والدولية أو جهات مختصة أخرى نحو إصدار قرارات ملزمة بتجفيف مصادر تمويل وتسليح ميليشيا الدعم السريع.
كذلك هذا فتح الباب أمام المساءلة القانونية الدولية ضد قادة المليشيا ومموليها، بناءً على تقارير أممية وإعلام غربي موثق.
يمكن القول إن السودان حقق تقدمًا ملحوظًا في مساره الدبلوماسي بعد دخول مليشيا الدعم السريع إلى الفاشر، حيث قدمت الخارجية ملفًا قانونيًا موثقًا إلى الأمم المتحدة حول الانتهاكات، مما أسفر عن إدانة واضحة من مجلس حقوق الإنسان ودعوة للتحقيق والمحاسبة. هذا التحرك يشير إلى انتقال، ترتيب المشهد السياسي والعسكري وفق سردية جديدة تعزز من شرعية الدولة وتضعف من موقف داعمي المليشيا داخليًا وخارجيًا.
وفي هذا السياق يشكل تلاقي تصريح تورك مع تعبئة البرهان لحظة مفصلية تمنح السودان وحلفاءه غطاءً سياسيًا أوسع لمواجهة التدخلات ودعم وكلاء الصراع، سواء على أرضه أو في العواصم التي تدعمهم.
وفقًا لـ #وجه_الحقيقة، فإن السودان اليوم يواجه حربًا تتجاوز ثنائية الجيش والمليشيا، لتصبح صراعًا على مستقبل البلاد ، بين إرادة شعب يسعى لصون استقلاله، وقوى إقليمية ودولية تسعى لإعادة تشكيله. وبين إعلان التعبئة واعتراف تورك ، علي السودانيون أن ينهضوا بوعي لصيانة الذاكرة الوطنية والدفاع عن السيادة. ويبقى الأمل معقودًا على أن يتحول هذا الوعي إلى مشروع وطني جامع، يتجاوز مخازي الحرب، ويضع أسس سلام عادل، يستمد قوته من الهوية والعدالة ووحدة المصير، فالأوطان لا تُحمى بالرصاص وحده، بل بالوعي والانتباه.
دمتم بخير وعافية.
الأحد 16 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com
