أمواج ناعمة : الاتحاد الأفريقي والسودان.. «حوار الطرشان :د. ياسر محجوب الحسين
حوار الطرشان هو حالة تباحث يفترض أنها حتمية لا مناص منها بين جهتين لا يفهم بعضُهما بعضًا؛ والسبب العطب، إما في كلتا الجهتين، أو في إحداهما. إن الحوار يعني فى الأصل أنك مستعد للأخذ والعطاء، وأنك تبدأ معتقداً أن رأيك صواب ولكنه يحتمل الخطأ، ورأى غيرك خطأ، ولكنه يحتمل الصواب، هكذا يمكن للحوار أن يبدأ وأن يكون مجدياً. لكن في «حوار الطرشان» تسيطر الرغبة الجامحة في الانتصار الصفري، فلا مكان للعقل، ولا للمنطق، بل اتباع النظرة الضيقة، وربما الارتهان لقوى تدير المشهد خلف الكواليس لمصلحتها التي غالباً هي ضد مصلحة الطرفين المنغمسين في «حوار الطرشان».
رشح من ضمن ما رشح في سياق سائبة الاخبار أن الاتحاد الأفريقي الذي يصر بعض المتنفذين فيه أن يبقى بئراً معطلةً وقصراً مشيداً، قد شكّل لجنة برئاسة الرئيس الاوغندي رئيس الدورة الحالية لمجلس السلم والأمن الأفريقي، لعقد لقاء جديد بين رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، ومحمد حمدان حميدتي قائد مليشيا الدعم السريع الذي يعتبر في أغلب المظان أنه في عداد الموتى. فمن مِن المتابعين لمسرح الاحداث في السودان لا يدرك أن الزعم بحضور حميدتي لأي لقاء يكاد يرقى لأن يكون تضليلاً سياسياً. كما أن الاتحاد الأفريقي منحاز حتى أخمص قدميه للمليشيا عبر مواقف جاءت تترا منذ بدء هذه الحرب بل منذ ما قبل ذلك؛ إذ كان جزءاً من الإشكال السياسي الذي أشعل الحرب. ولم يأل هذا الاتحاد جهداً في تسجيل فشل تلو فشل في أهم قضايا القارة التي تصدى لها وآخرها أزمة النيجر. فكيف لمن سارت الرياح بانحيازه المفضوح للطرف المعتدي أن يتقدم صفوف التوسط؟!..
لقد ظل استخدام تعبير “مسرح السياسة” باعتباره صيغةً بلاغيةً تختزل، وتشبّه ما يدور في دهاليز السياسة وكأنه عمل مسرحي، فالأعمال المسرحية تحاول محاكاة الواقع باستخدام اللا معقول من قول، وفعل لجذب جمهور المتفرجين؛ لكننا يبدو اليوم في حضرة مسرح سياسي أفريقي واقعاً لا تشبيهاً. فما هي فرص نجاح هذا التحرك الأفريقي المتأخر، والحرب على المواطن السوداني لا على الجيش تسجل انتهاكات فظيعة؟. الإجابة سلبية، إذ تبدو هذه الفرص صفرية وعدمية؛ فمن ناحية يجمّد الاتحاد عضوية السودان، وهنا تتجسّد حالة «حوار الطرشان»، إذ كيف تقود وساطة مع الدولة موضوع الوساطة وأنت تغلق أبواب الحوار حيث إنها ممنوعة بحكم التجميد المتعسف من حضور كل النقاشات والحوارات التي تدور في أروقة الاتحاد بخصوص شأنها الداخلي؟!. كما يتجاهل الاتحاد صعوبة أو استحالة لقاء البرهان – حميدتي، فالأخير تهرب من لقاء سابق دعت له منظمة الإيقاد لدول شرق ووسط أفريقيا، وعبر البرهان عن استعداده لحضور اللقاء – ربما لقناعته باستحالة عقد لقاء بين حيٍّ وآخر ميت – لكن حميدتي أو من يتقمص شخصيته اعتذر لـ”الإيقاد” بحجة واهية في آخر لحظة.
يشار إلى أن تجميد عضوية السودان في الاتحاد جاء بعد فض الشراكة السياسية التي كانت قائمة بين الجيش السوداني، وبين ما عرف بقوى الحرية والتغيير (قحت) عقب سقوط نظام الرئيس عمر البشير في ابريل 2019، واستقالة رئيس الحكومة عبد الله حمدوك. بيد أن الاتحاد تبنى رواية (قحت) واعتبر ذلك انقلاباً عسكرياً يقتضي تجميد العضوية. فهل انقلب البرهان رئيس مجلس السيادة على نفسه ثم عاد ونصب نفسه مرة أخرى رئيساً لمجلس السيادة؟. ولماذا تعترف الأمم المتحدة بسلطة البرهان، ويمثل بلاده في اجتماعات الجمعية العامة التي تمثل قمة لرؤساء العالم، ولا يعترف به الاتحاد الأفريقي؟. وهل كان حمدوك منتخباً ديمقراطياً من الشعب أم جاءت به تلك الشراكة السياسية المعطوبة التي ضمت الجيش، وقلة سياسية استطاعت الاستثمار في الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بالرئيس البشير؟. ولو تم تعيين اليوم رئيس وزراء جديد على رأس حكومة مدنية بصيغة اتفاق شراكة مماثل، وربما أوسع قاعدة من حكومة حمدوك، فهل ذلك سيدعو الاتحاد لفك تجميد عضوية السودان؟. المؤشرات تشير الى أن ذلك لن يحدث لأن الاتحاد مرتهن لسياسات محاور إقليمية ودولية داعمة لمليشيا الدعم السريع، وجناحها السياسي (قحت) التي عُدّلت وراثياً لتصبح تنسيقية (تقدم)امعانا في التضليل.
لقد فقد الاتحاد الأفريقي معظم مصادر تمويله الأفريقية بعد رحيل زعيم ليبيا معمر القذافي وهو على حال كان تمويلاً أفريقياً، لكن الاتحاد غدا يعتمد في تمويل أنشطته على الدول المانحة، وبالتالي أصبح مقيداً بتنفيذ أجندات المانحين، ودعم مواقفهم ضد الدول الأعضاء وشعوبها، وقد تغلغل التأثير الأجنبي في هياكل الاتحاد وأجهزته الداخلية، لا سيما مجلس الأمن والسلم، أهم مؤسسات الاتحاد. ولذا فقد أصبح الاتحاد مخلباً من مخالب النظام الدولي الإمبريالي، تستخدمه الدول المتنفذة متى وكيف ما شاءت.
————-
صحيفة الشرق القطرية 30 يونيون 2024