المقالات و الاعمدة

الترجمة العربية للمقال الذي نشترته صحيفة آسيانيوزبل الناطقة بالانجليزية : أسامة رقيعة: حين تصير الكلمات جمالًا وعدلًا معًا

محامٍ. كاتب. إنساني. رجلٌ جسَر حياته بين قاعات المحاكم وصفحات الأدب، مسخّرًا الكلمة درعًا حينًا ونشيدًا حينًا آخر.
في زمنٍ تسير فيه المهن في مسارات ضيقة، يبرز الدكتور أسامة رقيعة مختلفًا. فهو محامٍ تقوده الرحمة في قضاياه، وكاتب تتردد في نصوصه أصداء المهمَّشين، وإنساني يرى أن القوة، إذا استُعملت بحق، لا بد أن تنحني نحو الرحمة. بالنسبة له، لم يكن القانون والأدب طريقين منفصلين، بل “رفيقان في المسير… كالنهر وضفتيه، لا معنى لأحدهما دون الآخر”. وهذه القدرة النادرة على المزج بين العوالم هي التي صاغت مشروع حياته.
القانون منحه البنية، والأدب منحه الخيال، ومجتمعين منحاه الغاية: أن يكون صوتًا لمن لا صوت لهم.
عقل قانوني تصوغه الرحمة
رؤية أسامة للقانون شديدة الوضوح: “القانون يجب أن يكون درعًا لا سيفًا”. فقد شهد كيف يمكن للقوانين، إذا وُضعت في الأيدي الخاطئة، أن تكرّس الظلم بدل أن تزيله. لكن ردَّه لم يكن اليأس، بل الفعل. فأنشأ فكرة منصة خيرية تربط الضعفاء بمحامين متطوعين، جسرًا بين العاجزين عمّن يدافع عنهم وبين من يستطيع حمايتهم. ومبدؤه الإنساني صارم بقدر ما هو رحيم: “حين يُباع العدل يصبح سلعة، وحين يُمنح يصبح قيمة. والمظلوم يحتاج إلى العدل قبل أن يحتاج إلى الخبز.” بالنسبة له، القانون ليس بيروقراطية جافة، بل أداة حيّة تُعيد للإنسان كرامته.

الأدب كشهادة

إن كان القانون درعه، فالأدب صوته. يكتب أسامة لا ليهرب من الواقع، بل ليكشفه بعمق أكبر. رواياته ومقالاته وأدب رحلاته تزخر بوجوه الناس الذين التقاهم: نساء تُركن وحيدات في المحاكم، عائلات عجز الفقر عن تمكينها من الدفاع عن حقوقها، وغرباء يحملون قصصًا لم يُصغِ إليها أحد. يقول: “في القانون، غالبًا ما تكون المرأة بلا سند هي الحلقة الأضعف، لكن الأدب يمنحني الوسيلة لأهبها قوة الكلمات.”
هذه الرحمة ليست متخيّلة، بل مغروسة في قربه الشخصي من المعاناة. فقد نشأ على مقربة من الفقر، قريبًا بما يكفي ليرى صمته ويشعر بثقله. “رأيت في عيونهم حكايات تستحق أن تُروى”.

“شبح شفاف” ورحلة الداخل

من بين أعماله، تبرز رواية “شبح شفاف” كفعل أدبي واستيقاظ شخصي معًا. فهي تمزج بين الحاضر المؤسسي والماضي الأسطوري، وتغوص في الموت وما بعده، والعدالة الإلهية. يقول: “كل جملة كانت سؤالًا وجهته لنفسي أولًا قبل أن أقدمه للقارئ”. تلك الحميمة منحت الرواية نغمتها الخاصة — فلسفية لكنها واقعية، متجذرة في الحياة اليومية.
بالنسبة له، الأسطورة والواقع ليسا ضدّين، بل حقيقتين متداخلتين. وحتى في أدب الرحلات، تتحوّل الأمكنة إلى مرايا للنفس: “كل مدينة أزورها تترك أثرًا في روحي، وكل أثر يقودني إلى جزء مني لم أكن أعرفه”. فأسفاره أقل عن الجغرافيا وأكثر عن اكتشاف الذات، حيث يصير العالم الخارجي خريطة للداخل.

الامتداد العالمي لكلماته

انتقلت أعمال أسامة إلى ما وراء مكتبه، فنُشرت في مصر والأردن وتركيا والمغرب والسودان وإيران، وتُرجمت إلى الفارسية والتركية والأمهرية والإنجليزية. ويعزو هذا الانتشار إلى عالميتها: “الإنسانية لغة لا تحتاج إلى ترجمة. الألم، الأمل، الحب، والأحلام… هذه مفاهيم يولد بها كل إنسان.”
رغم حصوله على تكريمات وجوائز عديدة — مثل جائزة الكتاب الذهبي، وجائزة التميّز الدولية، والدكتوراه الفخرية في الإبداع — إلا أنه يرى أن الأثر غير المرئي هو الأجمل: “الجوائز جميلة، لكن أن تغيّر روحًا… تلك هي المجد الحقيقي”.

حياة قناعة لا أضواء

رغم الاعتراف والجوائز، يتجنّب أسامة غواية الأضواء: “الأضواء تخبو سريعًا، لكن الأثر يبقى”. فطموحه ليس الشهرة بل الخلود — أن يترك كلمات تبقى حيّة بعد رحيله، “كأنني ما زلت أتنفس بينها”.
أكبر مخاوفه لم يكن يومًا النسيان، بل العدمية: “الخوف من أن أموت قبل أن أعيش حقًا، ومن أن أخفق في خدمة الإنسانية. فالروح خُلقت لتعلو لا لتنحني.”
هذا اليقين هو ما يفسر شدة كتابته وعمق عطائه العام. فكلاهما بالنسبة له فعل شفاء — للمجتمع كما للذات.

على حافة الضوء

ولو كان لحياته أن تحمل عنوانًا، لاختار أسامة أن يسميها: “ذاك الذي مشى على حافة الضوء”. يقول: “لأنني طوال حياتي سرت بين الممكن والمستحيل، بين الحلم والواقع، دون أن أسقط في الظلام.”
تشبيه يليق برجل عاش عمره متوازنًا بين العدالة والرحمة، بين الواقع والخيال، بين الطموح والتواضع.

الإرث الذي يصنعه

أسامة رقيعة ليس مجرد محامٍ ولا مجرد روائي. إنه رجل اختار أن يبني جسرًا بين العوالم: قاعة المحكمة وصفحة الكتاب، العقلانية والشعر، الواقعية والأمل. قصته تذكير بأن الكلمة، حين تُستعمل بيقين، يمكن أن تكون جمالًا وعدلًا في آن واحد.
في زمن يخلط فيه كثيرون بين الظهور والقيمة، يقدم أسامة درسًا مختلفًا: أن المقياس الحقيقي للحياة ليس في بريقها اللحظي، بل في عمقها حين تسكن ذاكرة الآخرين.
في عمله، ينحني القانون نحو الرحمة، وينحني الأدب نحو الحقيقة. مجتمعين، يصنعان إرثًا لا يقتصر على الإنجازات بل يتجاوزها إلى المعنى.
ومهمته، كما يراها، ما تزال غير مكتملة. فطالما بقي ظلم بلا إنصاف، وحكايات بلا مَن يرويها، سيواصل الكتابة، وسيواصل العطاء، وسيظل يمشي على حافة الضوء.

* نقلا وترجمة عن النشرة الانجليزية

abubakr

محطات ذهبية موقع اخباري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى