الراي

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي : أيام تفصلنا عن تدشين سد النهضة

على وقع العد التنازلي لافتتاح سد النهضة الإثيوبي، يترقب الإقليم تحولات قد تعيد رسم خريطة التنمية والأمن المائي في حوض النيل. المشروع الذي شغل المنطقة منذ 2011 يطل اليوم كواقع ماثل لا يمكن تجاوزه، بقدرة تخزينية تبلغ 74 مليار متر مكعب وطاقة كهربائية تقدر بـ 5000 ميغاواط.

هذا المشروع الذي طالما شكّل محور جدل سياسي فني بين السودان ومصـر واثيوبيا، يفتح اليوم نافذة جديدة على فرص تكاملية، فضلاً عن تحديات مائية حقيقية تتطلب استراتيجيات فاعلة من قبل دول المصب.

إثيوبيا أعلنت اكتمال البناء وتنوي دعوة السودان ومصر لحضور الافتتاح في سبتمبر الحالي، لتدخل أزمة المياه في شرق إفريقيا مرحلة جديدة. فبعد سنوات من الجدل حول إمكانية تعطيل المشروع، بات من الواضح أن السد أصبح حقيقة قائمة، تستوجب إعادة صياغة السياسات وتعظيم الفوائد لا الاكتفاء بالمواقف التقليدية.

مصر ما تزال تتمسك بمطلب اتفاق قانوني ملزم ينظم الملء والتشغيل حفاظًا على حصتها التاريخية من مياه النيل، بينما يواجه السودان معادلة أكثر تعقيدًا، بحكم موقعه الجغرافي بين المنبع والمصب. فالمخاطر المرتبطة بغياب اتفاق للتنسيق المائي تبقى قائمة، خصوصًا خلال سنوات الجفاف والجفاف الممتد أو التدفقات المفاجئة، لكن في المقابل، فإن فرص السودان من السد تبدو كبيرة إذا أُحسن توظيفها.

يؤكد خبراء سودانيون بارزون، مثل د. عثمان التوم ود. سيف الدين حمد، أن السد يمكن أن يقلل الطمي بنسبة تصل إلى 70% في سدود الروصيرص وسنار، ويحُد من الفيضانات الموسمية، ويحسّن التخزين المائي في السدود السودانية. كما أن موقع محطات التوليد الإثيوبية القريب من ولايات سنار والقضارف والنيل الأزرق التي تعاني عدم وجود تيار كهربائي مستقر يتيح للسودان استيراد كهرباء بأسعار تفضيلية تعزز التنمية الزراعية والصناعية في هذه الولايات الواعدة، وربما كافة الولايات السودانية عبر الشبكة القومية.

أحد أكثر المخاوف شيوعًا هو احتمال انهيار السد. غير أن هذه الفرضية تفتقر إلى أدلة علمية قوية، خاصة أن تصميمه خضع لمراجعات دولية ونفذته شركات متخصصة مثل “ساليني” الإيطالية، بمشاركة عناصر فنية من السودان ومصر خلال مراحل المتابعة. فهل من الواقعي أن يبنى الموقف السوداني على فرضية فشل محتمل دون بدائل عملية؟

المطلوب اليوم هو أن ينتقل السودان من دور المراقب الحذر إلى دور الفاعل المفاوض، من خلال بناء شبكة مصالح مشتركة مع إثيوبيا. ويمكن أن يشكّل التوسع في الربط الكهربائي مثالًا عمليًا لذلك، إذ أن السعة الحالية البالغة 100- 250 ميغاواط يمكن أن تُرفع تدريجيًا إلى 1000 ميغاواط. هذا التوسع يستدعي تبادلًا منتظمًا للمعلومات الفنية حول التشغيل، مما يعزز الثقة ويمهّد لتعاون مستدام بعيدًا عن التوترات السياسية.

أما العلاقة مع مصر، فهي ضرورة جغرافية وتاريخية وأمنية لا يمكن تجاوزها، لكن من المهم التفريق بين التنسيق والتبعية. مصالح السودان ليست مطابقة لمصر: فبينما تخشى القاهرة على حصتها المائية، يحتاج السودان بالدرجة الأولى لتنظيم التدفقات وتحسين قدراته في جانب الطاقة والتوسعة الزراعية.

السودان يمتلك فرصًا تنموية واعدة لفائدة شعوب الدول الثلاث إذا وظف السد في خطط استراتيجية تستهدف توسيع الرقعة الزراعية وتطوير الصناعات المعتمدة على الطاقة. الأرض متوفرة، والمياه يمكن أن تصبح أكثر انتظامًا، والطاقة الكهربائية متاحة، أما مصر فتملك خبرات زراعية راسخة في جانب الاصلاح الزراعي، وإثيوبيا تمتلك قدرة على التوليد الكهرومائي. إذا اجتمعت هذه العناصر، فقد تشكل قاعدة لتكامل إقليمي حقيقي.

غير أن ما يثير القلق هو غياب النخب السياسية والإعلامية في السودان عن هذا النقاش المصيري المنتبه. فالصمت يحيط بملف من شأنه أن يشكل نقطة انطلاق نحو تنمية مستدامة لولايات بأكملها، ويكون رافعة اقتصادية في ظروف استثنائية تمر بها البلاد.

مع التدشين الرسمي هذا الشهر، سيُطرح على السودان خياران: إما الانخراط بفعالية في إدارة المرحلة الجديدة عبر التعاون والمبادرات المشتركة، أو البقاء رهين ردود الأفعال، وما يترتب على ذلك من خسائر محتملة .

بحسب #وجه_الحقيقة فإن الفرصة ما تزال قائمة، لكنها تتآكل مع مرور الوقت. المطلوب حوار فني صريح، ودبلوماسية ذكية قادرة على تحويل الأزمة إلى فرصة. فالأوطان لا تُبنى بالتردد، ولا تُدار بالتحفظات. تدشين سد النهضة ليس مجرد احتفالية إثيوبية، بل محطة فاصلة لإعادة رسم مستقبل المياه والتنمية في المنطقة. وإذا أحسن السودان التعامل مع هذه اللحظة، فقد يجد في السد رافعة حقيقية لنهضته.

دمتم بخير وعافية.
السبت 6 سبتمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

abubakr

محطات ذهبية موقع اخباري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى