مشاهدات 13 ديسمبر: حين استعاد الشارع السوداني المبادرة : تقرير ابراهيم شقلاوي

ما شهدته الساحة السودانية اليوم لا يمكن اختزاله في مشهد تعبوي أو استفتاء عاطفي على الحرب، بل يمثل لحظة نادرة استعاد فيها الشارع وظيفته السياسية العليا ” المبادرة” و إنتاج الشرعية. ففي سياق انهيار المنظومات الوسيطة – الأحزاب السياسية ، التحالفات المدنية، وحتى بعض الأطر النقابية – خرج المجتمع مباشرة بلاء انتماء لأي فصيل سياسي او جهة حزبية ليملأ الفراغ ، ويعيد تعريف من يملك حق التحدث باسم الدولة والوطن والشعب ، ومن يُقصى خارجها.
: دعونا نبدأ بالمشاهدات :
– الارهاصات التي سبقت الخروج كانت واجفة، حيث اعتاد الناس مثل هذه الفعاليات تنظمها الاحزاب تقف خلفها وتدعمها ، لا الشعب من تلقاء نفسه لذلك كان الحماس منقسم ما بين الخوف والرجاء.
– كالعادة الولايات الطرفية هي من تقود، خرجت قبل الموعد المحدد ولاية النيل الابيض بمحلياتها، ثم الجزيرة، ثم سنار ثم الشمالية، ثم النيل الازرق ونهر النيل ،تأخرت البحر الأحمر وكسلا ، يبدو ان الترتيب فيهما كان معقد بعض الشي ،ثم خرجت أستراليا في المقدمة ثم تبعتها لندن ثم باريس ثم مدن اخري في الداخل والخارج ليكتمل العقد بالخرطوم ، وغابت العواصم العربية غياب يوحي بالخذلان.
– حضرت كافة القنوات الخارجية تصدرت المشهد الجزيرة مباشر، كذلك حضرت قنواتنا المحلية ،لكنها افسدت روعة المشهد باعتمادها علي البث من داخل الاستديوهات ، واعتمدت كثير من الضيوف بعضهم كان تائها، وكذلك بعض مشاهد الكاميرة كانت مبعثرة، بين الاستديو التحليلي والشارع لذلك كشفت عن الإحاطة ضعيفة .
– الاذاعات والاعلام الإلكتروني كانا في الموعد و في مستوي الحدث وكذا الناشطين في جميع مواقع التواصل الاجتماعي.
الي التحليل السياسي :
أولًا: إعادة تعريف الشرعية في زمن الحرب
في الحروب غالبًا ما تتآكل الشرعية لصالح منطق القوة أو التدخل الخارجي. ما حدث في 13 ديسمبر كسر هذه القاعدة. فالتظاهرة اليوم لم تمنح الجيش مجرد دعم معنوي، بل أعادت إنتاج شرعيته بوصفه الأداة السيادية الموثوقة الوحيدة . هنا، يصبح الجيش ليس “طرفًا” في صراع، بل حاملًا لوظيفة الدولة في مواجهة كيان مسلح خارج العقد الاجتماعي.
بهذا المعنى، فإن الشارع لم يفوّض العنف، بل فوّض حصر العنف داخل إطار الدولة، وهي لحظة فارقة في أي مسار بناء سياسي. التفويض هنا مشروط: حسم المليشيا، لا إدارتها، وإنهاء الحرب، وفقا لخارطة الطريق التي اقرها مجلس الامن والدفاع السوداني ودعمها الشعب بهذا الخروج.
ثانيًا: إسقاط خطاب «التسوية الرمادية»
على مدى الشهور الماضية، رُوّج إقليميًا ودوليًا لفكرة أن السلام في السودان يمر عبر تسوية وسطى تُبقي على المليشيا كفاعل سياسي أو أمني. المسيرات الهادرة جاءت لتُسقط هذا الافتراض من أساسه. فهي تقول بوضوح إن المجتمع نفسه يرفض منطق التعايش مع المليشيا، ويرى فيه تهديدًا وجوديًا لا خلافًا سياسيًا قابلًا للتفاوض.
هذا الموقف الشعبي يُفرغ أي مسار تفاوضي لا يبدأ بتفكيك الدعم السريع من مضمونه، ويحوّل اتفاق جدة من خيارٍ قابل للأخذ والرد إلى الحد الأدنى الوطني الذي لا يُقبل دونه أي حديث عن سلام.
ثالثًا: تفكيك مقولة «الجيش المختطف»
أحد أخطر الأسلحة التي استُخدمت ضد القوات المسلحة لم يكن السلاح العسكري، بل السردية السياسية التي صوّرته كجسم أيديولوجي مختطف. ما فعله الشارع اليوم هو نزع الطابع الأيديولوجي عن موقف الجيش، وإعادته إلى مربعه الطبيعي: مؤسسة وطنية تعكس مزاجًا اجتماعيًا عامًا يعبر عن كافة السودانين بلا انتماء سياسي ، لا أجندة نخبوية ضيقة.
حين يهتف ملايين المواطنين “جيش واحد شعب واحد” وبذات الشروط التي أعلنها قائد الجيش، فإن العلاقة تنقلب: لم يعد الرئيس البرهان هو من يفرض خارطة الطريق، بل الشعب هو من يصادق عليها، ويحوّلها إلى التزام جماعي لا يمكن التراجع عنه دون كلفة سياسية باهظة.
رابعًا: الأثر الداخلي المتوقع – نحو إعادة تشكيل المجال السياسي
داخليًا، يُتوقع أن تُحدث هذه اللحظة إعادة فرز قاسية داخل المشهد السياسي السوداني . فالقوى التي راهنت على الحياد أو التسويات الملتبسة ستجد نفسها معزولة عن الشارع، بينما تبرز ملامح” كتلة وطنية جديدة”، لا تُعرّف نفسها عبر أيديولوجيا، بل عبر موقفها من الشعب الدولة والجيش.
كما أن هذا الجماهير الهادرة التي رأيناها اليوم تعيد بناء الجبهة الداخلية على أساس الوطن والسيادة ، وهو عامل حاسم في الحروب الممتدة، حيث تُهزم الجيوش غالبًا حين تنهار بيئاتها الاجتماعية لا حين تخسر معاركها.
خامسًا: الأثر الإقليمي – تعديل حسابات الرعاة والداعمين
إقليميًا، يُربك هذا المشهد حسابات القوى التي تعاملت مع السودان بوصفه ساحة قابلة للتفكيك أو الاستثمار في الفوضى. فالدعم الشعبي الواسع للجيش يرفع كلفة أي رهان على المليشيا، ويُضعف قابلية تسويقها كقوة «ضرورية للاستقرار كما يزعمون ».
المشهد اليوم يعيد السودان، ولو تدريجيًا، إلى موقع الفاعل لا المفعول به في محيطه، ويبعث برسالة واضحة لدول الجوار: الأمن في السودان لن يُبنى عبر وكلاء، بل عبر دولة متماسكة تحظى بشرعية داخلية وبشعب قادر علي نصرة جيشه وبلاده .
سادسًا: الأثر الدولي – من التعاطف إلى إعادة التموضع
دوليًا، لا تتحرك السياسات الكبرى بدافع الأخلاق وحدها، بل وفق موازين القوة والشرعية . ما قدمته المسيرات اليوم هو غطاء سياسي يسمح للعواصم المترددة بإعادة التموضع: تشديد المواقف تجاه المليشيا، دعم مسار تصنيفها كمنظمة إرهابية ، وتعزيز التعامل مع الجيش والحكومة بوصفهما الممثل الشرعي الوحيد للسودانيين .
كما أن وحدة الرسالة الشعبية تُضعف الرواية الإعلامية للمليشيا وداعميها، وتقلّص المساحات الرمادية التي احتمت بها داخل بعض المنصات الدولية.
سابعًا: الدلالة الأعمق – لحظة تأسيس لا تكرار
في جوهره، 13 ديسمبر ليس يومًا في روزنامة الحرب، بل لحظة تأسيس. لحظة أعاد فيها المجتمع تعريف الوطنية بوصفها مسؤولية، لا شعارًا؛ وعرّف السلام بوصفه نتيجة للعدالة والسيادة، لا صفقة سياسية؛ وعرّف الجيش بوصفه أداة دولة، لا لاعب سلطة.
هنا، لا يعود السؤال: هل ستنتهي الحرب؟
بل: كيف ستُبنى الدولة بعدها؟ والإجابة التي قدّمها الشارع اليوم واضحة، ثقيلة، ومكلفة :لا دولة مع المليشيا، ولا سلام دون تفكيكها، ولا مستقبل دون استعادة الاحتكار الشرعي للقوة. ذلك هو المعنى الحقيقي لما جرى اليوم.
دمتم بخير وعافية.
السبت 13 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com



