وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي : القاش ومشروعات السدود الجديدة

شهد نهر القاش مطلع الاسبوع ارتفاعًا غير مسبوق في منسوب المياه عند محطة كبري كسلا، حيث بلغ 290 سنتيمترًا، مقارنة بـ160 سنتيمترًا في اليوم السابق، وهو ما يعد أعلى مستوى منذ بداية موسم الأمطار لهذا العام. هذا التصاعد السريع في المياه، الذي تزامن مع هطول أمطار غير مسبوقة في ولاية كسلا، أعاد فتح ملف العلاقة بين الفيضانات الموسمية وخطط الدولة في إدارة الموارد المائية، لا سيما في ظل التحديات المناخية المتزايدة.
ما يحدث في القاش سنويا من فيضان متجدد يعد مؤشرا سياسيا واقتصاديا بالغ الدلالة على فجوة السياسات العامة في التعامل مع المياه كعنصر استراتيجي للأمن الوطني. وفي ظل تصاعد المخاوف من تكرار سيناريو الفيضانات التي ضربت مناطق مثل أروما والدلتا شمال كسلا، سارعت السلطات المحلية بتعزيز إجراءات الحماية والترويض، عبر تدعيم الجسور ومعالجة الانهيارات، كجزء من برنامج دفاعي أكثر منه تنموي.
بالرغم من وجود قرار مجلس الوزراء السوداني رقم 16 الصادر في العام 2021، الذي أعاد تبعية مشروع القاش الزراعي إلى وزارة الري والموارد المائية، بعد سنوات من التجاذبات الإدارية. القرار الذي أكدته وكالة الأنباء الرسمية السودانية (سونا)، كان خطوة حاسمة نحو إعادة تعريف المشروع بوصفه اصلا سياديًا ذا طابع تنموي مرتبط بالأمن الغذائي والمائي في آن واحد.
في ضوء هذا القرار، تحركت في وقت سابق وزارة الري لاستعادة زمام المبادرة، وبدأت ترتيبات صيانة وتأهيل قنوات المشروع، وتم تخصيص ميزانية مقدرة من وزارة المالية الاتحادية، وفقًا لما أعلنه وكيل الوزارة المهندس ضو البيت عبد الرحمن. وأكدت التصريحات الرسمية أن هناك توجهًا واضحًا نحو تنفيذ الأولويات الملحة، بما في ذلك دعم عمليات ترويض النهر وتطوير البنية التحتية للمشروع الزراعي العريق.
ما يدعم هذه الجهود هو الدراسة الفنية الشاملة التي أعدها المهندس مستشار عثمان حيدر عبد الهادي – حصل الكاتب علي نسخة منها- ، والتي تُعد مرجعًا هيدرولوجيًا استراتيجيًا لحوض تصريف نهر القاش. تغطي الدراسة الفترة من 2015 حتى 2020، وتعتمد على نماذج تحليل متقدمة مثل HEC-HMS وWMS، لتقدير الجريان السطحي، والفواقد ونقاط الذروة، وهو ما يوفر قاعدة بيانات قوية لصياغة مشاريع حصاد المياه وتحويل القاش إلى نهر دائم التدفق، بدلًا من كونه موسميًا محدود الأثر.
توصيات الدراسة تضمنت مقترحات بإنشاء سدود استراتيجية أبرزها” سد فودي وسد هاكوتا” ، اللذان يمكن أن يخزنا أكثر من مليار متر مكعب من المياه، أي حوالي 23% من إجمالي مياه القاش الواردة من إريتريا إلى نهر عطبرة. وتشير التحليلات إلى أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تنظيم الجريان طوال العام، بما يسمح باستخدام المياه في الشرب والري وتوليد الطاقة.
الأهم من ذلك أن الرؤية التنموية المقترحة لا تتوقف عند مجرد بناء السدود، بل تمتد لتشمل ربط نهر القاش بنهري عطبرة وبركة عبر شبكة فرعية تبدأ من سهول كسلا، ما يفتح الباب أمام تكامل مائي إقليمي يضمن استقرارًا أكبر للسكان، ويحول التهديدات الموسمية إلى فرص استثمارية.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى التعاون الذي أبداه المزارعون المحليون مع الحكومة، حيث عبرت قياداتهم عن ارتياحها لإعادة المشروع لوزارة الري، وأكدوا استعدادهم لدفع رسوم المياه، رغم تراجع المساحات المزروعة إلى 20 ألف فدان فقط، مقارنة بـ80 ألفًا سابقًا.
لكن كل هذه الآمال تظل رهينة بإرادة سياسية قادرة على تحويل المعطيات العلمية إلى سياسات عامة قابلة للتنفيذ، وهو ما يتطلب أكثر من مجرد قرارات وزارية أو تحركات موسمية. لذلك يتطلب الأمر ، رؤية استراتيجية تُعيد ترتيب أولويات الدولة حول مفهوم الأمن المائي كركيزة للسيادة والتنمية.
كما يتطلب تنسيقًا مؤسسيًا أعلى بين وزارة الري والولايات المعنية، وتوفير تمويل مستدام يتجاوز الاعتمادات المحدودة التي تم الإعلان عنها مؤخرًا “80 مليون جنيه لأعمال ترويض القاش، و50 مليون لمشروع القاش الزراعي” ،خاصة في ظل حجم الاستثمارات المطلوبة لبناء السدود، وتمديد القنوات، وإنشاء وحدات الصيانة والتشغيل، وتدريب الكوادر .
بحسب ما نراه من#وجه_الحقيقة ، فإن ترويض نهر القاش يمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة بلادنا على تحويل التحديات إلى فرص. في ظل هشاشة المناخ واضطراب الأوضاع السياسية والنزوح المتكرر، حيث تبرز المياه كعنصر محوري في إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع. لذلك تحويل نهر القاش إلى مجرى دائم وربطه بشبكة الأنهار الشرقية يعد مشروع تنموي حقيقي ، بجانب انه خطوة استراتيجية لإعادة تشكيل شرق السودان كمركز إنتاجي فاعل. لذلك الاستثمار في نهر القاش يعد ضرورة وطنية تفتح الباب أمام إدارة متكاملة للموارد، وتحوّل المياه من أزمة موسمية إلى مصدر تنمية دائمة وعدالة ممكنة اذا قويت النية فلن تضعف الأبدان.
دمتم بخير وعافية.
الإحد 17 2025م. Shglawi55@gmail.com