وجه الحقيقة : إبراهيم شقلاوي : أشواق وبست فريند.. تملان الفراغ!

مع اقتراب السودان من الخروج من الحرب، تتجه الأنظار إلى العملية السياسية والتنموية لإعادة بناء الدولة، بعد أن كشفت الأحداث هشاشة المؤسسات الرسمية. وفي هذا السياق يبرز المجتمع المدني كفاعل حيوي في سدّ الفراغ ، وتقديم بدائل فاعلة تسهم في تعزيز الاستقرار واستعادة الأمن والسلام، بعيدًا عن سيناريوهات الفوضى.
تشهد هذه المرحلة صعودًا ملحوظًا لمنظمات المجتمع المدني بوصفها أحد الفاعلين الرئيسيين في عملية إعادة بناء الدولة والمجتمع، خصوصًا في ظل غياب الدولة المركزية عن بعض المناطق، نتيجة شُح الموارد وضعف البنية التحتية التي تأثرت بالحرب.
وفي هذا الإطار، تمثل العودة الميدانية لكل من جمعية “بست فريند” الخيرية ومنظمة “أشواق للتنمية” إلى العاصمة الخرطوم، تحولًا نوعيًا في العمل الطوعي، يجمع بين الواجب الأخلاقي والتنظيم الإداري. هذه العودة تعبّر عن استئناف للأنشطة التطوعية، وتؤشر إلى انبعاث محتمل لدور المجتمع المدني في ترميم النسيج الوطني وتعزيز قيم المشاركة.
يشتهر المجتمع السوداني بثقافة ‘النفير’، حيث تتكاتف المجتمعات تلقائيًا، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، لمواجهة الازمة و التحديات.
وقد دشّنت جمعية “بست فريند” عودتها بلقاء تفاكري ضم أعضاءها العائدين من الخارج، أكدت خلاله التزامها الإنساني والاجتماعي تجاه الفئات الضعيفة. ويُذكر أنها نظمت في وقت سابق فعاليات اليوم العالمي لمتلازمة داون، بالتعاون مع المركز الدولي لتنمية الطفولة، في خطوة توعوية تعكس وعي الجمعية بأهمية تجاوز العمل الإغاثي المباشر نحو بناء ثقافة دامجة تحترم التنوع وتعزز العدالة الاجتماعية.
بالموازاة، قدمت منظمة “أشواق للتنمية” تصورًا متكاملًا حول العودة الطوعية للنازحين، من خلال ورقة تحليلية تناولت التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية والمؤسسية التي تعيق هذه العودة. وأشارت الورقة – التي حصل الكاتب على نسخة منها – إلى أن العودة الكريمة والآمنة لا يمكن أن تتحقق دون إعادة بناء الثقة المجتمعية، واستعادة الخدمات الأساسية، وابتكار حلول اقتصادية تراعي واقع الأسر المتأثرة.
كما دعت إلى تفعيل شراكات ثلاثية بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، ضمن ما يمكن تسميته بـ”النفير الوطني المؤسسي”، وهو تصور يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة على أسس تشاركية جديدة.
وتُقدم تجارب إقليمية نماذج قابلة للتوظيف في السياق السوداني؛ ففي لبنان بعد الحرب الأهلية، اضطلعت منظمات المجتمع المدني بدور محوري في سدّ فراغ الدولة، وقدّمت خدمات حيوية بفضل شراكات مع الاتحاد الأوروبي والوكالات الأممية. وفي اليمن قادت منظمات محلية جهود الإغاثة وإعادة التأهيل عقب انهيار الدولة، اعتمادًا على دعم خليجي ودولي ، وتدخلات ميدانية لامركزية عززت من صمود المجتمعات المحلية. وما يجمع بين هذه التجارب هو وضوح الرؤية، واستقلالية القرار ، وبناء شراكات متوازنة مع الخارج دون التفريط في السيادة الوطنية.
وسط هذه الديناميكية المتصاعدة، يبرز تساؤل مشروع: أين الهلال الأحمر السوداني؟ وهو الكيان الذي يُفترض أن يتصدر مشهد الإغاثة وإعادة الإعمار نظرًا لتاريخه العريق وعضويته الدولية. إن غيابه في لحظة حرجة كهذه يستوجب مراجعة جادة: هل المشكلة في الحوكمة والتمويل؟ أم في التجاذبات السياسية والإدارية؟.
كذلك، يلاحظ غياب منظمات وطنية فاعلة ، مثل الشبكة الوطنية للعمل الطوعي، والمجلس السوداني للمنظمات الطوعية “إسكوفا” ، وتحالف منظمات المجتمع المدني السودانية، ما يعكس خللًا عميقًا في البنية الوطنية المؤسسية التي كان يُفترض أن تقود جهود الاستجابة الإنسانية والتنموية.
وبما أننا نعلم أن الفريق الصادق إسماعيل، مستشار رئيس مجلس السيادة للعمل الإنساني وشؤون المنظمات، من المهتمين بهذا الملف، فإننا نأمل أن تجد المبادرات الوطنية الواعدة ، مثل “أشواق للتنمية” و”بست فريند”، ما تستحقه من دعم وتسهيلات، إلى جانب مراجعة وضع المنظمات الوطنية الأخرى التي لا تزال خارج دائرة الفعل، تمكينًا لها من القيام بدورها المستحق في هذه المرحلة المفصلية.
وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن التحدي الأكبر في السودان اليوم لا يقتصر على إزالة آثار الحرب، بل يمتد إلى إعادة تأسيس نظام حكم يربط الدولة بالمجتمع عبر قنوات فاعلة ومستدامة. منظمات مثل “بست فريند” و”أشواق للتنمية” تقدم نماذج ملهمة لإعادة بناء هذا الرابط، عبر دعم المبادرات الشعبية، والعمل التشاركي مع الجهات الرسمية والشركاء الدوليين. نجاح هذه التجربة، بلا شك، سيسهم في رسم مستقبل أكثر استقرارًا، ويعيد الاعتبار للمجتمع المدني كشريك رئيسي في التنمية وصناعة السلام.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 16 يوليو 2025
Shglawi55@gmail.com